فصل: ما وقع من أحداث سنة تسع وخمسين وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.ما وقع من أحداث سنة تسع وخمسين وستمائة:

ثم دخلت سنة تسع وخمسين وستمائة:
ذكر كسرة التتر على حمص:
وفي يوم الجمعة خامس المحرم عن هذه السنة، كانت كسرة التتر على حمص، وكان من حديثها أن التتر لما قدموا في آخر السنة الماضية إلى الشام، اندفعت العزيزية والناصرية من بين أيديهم، وكذلك الملك المنصور صاحب حماة، ووصلوا إلى حمص، واجتمع بهم الملك الأشرف صاحب حمص، ووقع اتفاقهم على ملثقى التتر، وسارت التتر إليهم والتقوا بظاهر حمص في نهار الجمعة المذكور، وكان التتر أكثر من المسلمين بكثير، ففتح الله تعالى على المسلمين بالنصر، وولى التتر منهزمين، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون منهم كيف شاؤوا، ووصل الملك المنصور إلى حماة بعد هذه الوقعة، وانضم من سلم من التتر إلى باقي جماعتهم، وكانوا نازلين قرب سلمية، واجتمعوا ونزلوا على حماة وبها صاحبها الملك المنصور، وأخوه الملك الأفضل والعسكر، وأقام التتر على حماة يوماً واحداً، ثم رحلوا عن حماة، وأراد الملك المنصور بعد رحيل التتر المسير إلى دمشق، فمنعه العامة من ذلك حتى استوثقوا منه أنه يعود إليهم عن قريب، فسافر هو وأخوه الملك الأفضل في جماعة قليلة، وبقي الطواشي مرشد في باقي العسكر بحماة، ووصل المنصور بمن معه إلى دمشق، وكذلك توجه الملك الأشرف صاحب حمص إلى دمشق، وأما حسام الدين الجوكندار العزيزي، فتوجه أيضاً بمن في صحبته، ولم يدخل دمشق، ونزل بالمرج، ثم سار إلى مصر، وأقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق في دورهما، والحاكم بها يومئذ سنجر الحلبي الملقب بالسلطان الملك المجاهد، وقد اضطرب أمره. ولذلك أقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق، ولم يدخلا في طاعته لضعفه، وتلاشي أمره، وأما التتر فساروا عن حماة إلى فامية، وكان قد وصل إلى فامية سيف الدين الدنبلي الأشرفي، ومعه جماعة، فأقام بقلعة فامية، وبقي يغير على التتر، فرحلوا عن فامية وتوجهوا إلى الشرق.
ذكر القبض على سنجر الحلبي الملقب بالملك المجاهد:
وفي هذه السنة، جهز الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر عسكراً، مع علاء الدين البندقدار، وهو أستاذ الملك الظاهر، لقتال علم الدين سنجر الحلبي المستولي على دمشق، فوصلوا إلى دمشق في ثالث عشر صفر من هذه السنة، ولما وصل عسكر مصر إلى دمشق، خرج إليهم الحلبي لقتالهم، وكان صاحب حماة وصاحب حمص قيمين بدمشق، لم يخرجا مع الحلبي لقتالهم، ولا أطاعاه لاضطراب أمر الحلبي، واقتتل معهم بظاهر دمشق في ثالث عشر صفر من هذه السنة، أعني سنة تسع خمسين وستمائة، فولى الحلبي وأصحابه منهزمين، ودخل إلى قلعة دمشق، إلى أن جنه الليل فهرب من قلعة دمشق إلى جهة بعلبك، فتبعه العسكر وقبضوا عليه، وحمل إلى الديار المصرية، فاعتقل ثم أطلق، واستقرت دمشق في ملك الملك الظاهر بيبرس، وأقيمت له الخطبة بها بغيرها من الشام، مثل حماة وحلب وحمص وغيرها، واستقر أيدكين البندقدار الصالحي في دمشق لتدبير أمورها، ولما استقر الحال على ذلك، رحل الملك المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص، وعادا إلى بلادهما واستقر بها.
ذكر خروج البرلي عن طاعة الملك الظاهر بيبرس واستيلائه على حلب:
وفي هذه السنة بعد استقرار علاء الدين أيدكين البندقدار في دمشق، ورد عليه مرسوم الملك الظاهر بيبرس بالقبض على بهاء الدين بغدي الأشرفي وعلى شمس الدين أقوش البرلي، وغيرهما من العزيزية والناصرية، وبقي علاء الدين أيدكين متوقعاً ذلك، فتوجه بغدي إلى علاء الدين أيدكين، فحال دخوله عليه قبض على بغدي المذكور، فاجتمعت العزيزية والناصرية إلى أقوش البرلي، وخرجوا من دمشق ليلاً على حمية، ونزلوا بالمرج، وكان أقوش البرلي قد ولاّه المظفر قطز غزة والسواحل على ما قدمنا ذكره، فلما جهز الملك الظاهر أستاذه البندقدار إلى قتال الحلبي، أرسل إلى البرلي وأمره أن ينضم إليه، فسار البرلي مع البندقدار وأقام بدمشق، فلما قبض على بغدي، خرج البرلي إلى المرج وأرسل علاء الدين أيدكين البندقدار إلى البرلي يطيب قلبه، ويحلف له، فلم يلتفت إلى ذلك، وسار البرلي إلى حمص وطلب من صاحبها الأشرف موسى أن يوافقه على العصيان، فلم يجبه إلى ذلك، ثم توجه إلى حماة وأرسل يقول للملك المنصور صاحب حماة، أنه لم يبق من البيت الأيوبي غيرك، وقم لنصير معك ونملكك البلاد، فلم يلتفت الملك المنصور إلى ذلك، ورده رداً قبيحاً، فاغتاظ البرلي ونزل على حماة وأحرق زرع بيدر العشر، وسار إلى شيزر ثم إلى جهة حلب، وكان علاء الدين أيدكين البندقدار لما استقر بدمشق، قد جهز عسكراً صحبة فخر الدين الحمصي، للكشف عن البيرة، فإن التتر كانوا قد نازلوها، فلما قدم البرلي إلى حلب، كان بها فخر الدين الحمصي المذكور، فقال له البرلي نحن في طاعة الملك الظاهر، فتمضي إلى السلطان وتسأله أن يتركني ومن في صحبتي مقيمين بهذا الطرف، ونكون تحت طاعته من غير أن يكلفني وطء بساطه، فسار الحمصي إلى جهة مصر ليؤدي هذه الرسالة، فلما سار عن حلب، تمكن البرلي واحتاط على ما في حلب من الحواصل، واستبد بالأمر، وجمع العرب والتركمان، واستعد لقتال عسكر مصر، ولما توجه فخر الدين الحمصي لذلك، التقى في الرمل جمال الدين المحمدي الصالحي متوجهاً بمن معه من عسكر مصر لقتال البرلي وإمساكه، فأرسل الحمصي عرف الملك الظاهر بما طلبه البرلي، فأرسل الملك الظاهر ينكر على فخر الدين الحمصي المذكور ويأمره بالإنضمام إلى المحمدي، والمسير إلى قتال البرلي، فعاد من وقته، ثم رضي الملك الظاهر عن علم الدين سنجر الحلبي، وجهزه وراء المحمدي في جمع من العسكر، ثم أردفه بعز الدين الدمياطي في جمع آخر، وسار الجميع إلى جهة البرلي وساروا إلى حلب، وطردوه عنها، وانقضت السنة والأمر على ذلك.
ذكر مقتل الملك الناصر يوسف:
وفي هذه السنة، ورد الخبر بمقتل الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعقد عزاه بجامع دمشق، في سابع جمادى الأولى من هذه السنة، أعني سنة تسع وخمسين وستمائة، وصورة الحال في قتله، أنه لما وصل إلى هولاكو على ما قدمنا ذكره، وعده برده إلى ملكه، وأقام عند هولاكو مدة، فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره بعين جالوت، وقتل كتبغا، ثم كسرة عسكره على حمص ثانياً، غضب من ذلك وأحضر الملك الناصر المذكور، وأخاه الملك الظاهر غازي وقال له: أنت قلت أن عسكر الشام في طاعتك، فغدرت بي وقتلت المغل. فقال الملك الناصر: لو كنت بالشام ما ضرب أحد في وجه عسكرك بالسيف، ومن يكون ببلاد توريز كيف يحكم على بلاد الشام، فاستوفي هولاكو لعنه الله ناصجاً وضربه به. فقال الملك الناصر: يا خوند الصنيعة، فنهاه أخوه الظاهر وقال: قد حضرت، ثم رماه بفرده ثانية فقتله، ثم أمر بضرب رقاب الباقين، فقتلوا الظاهر أخا الملك الناصر، والملك الصالح ابن صاحب حمص، والجماعة الذين كانوا معهم، واستبقوا الملك العزيز ابن الملك الناصر، لأنه كان صغيراً، فبقي عندهم مدة طويلة، وأحسنوا إليه، ثم مات وكان قد تولى الملك الناصر المذكور مملكة حلب بعد موت أبيه العزيز، وعمره سبع سنين، وأقامت جدته ضيفة خاتون بنت الملك العادل بتدبير مملكته، واستقل بالملك بعد وفاتها في سنة أربعين وستمائة، وعمره ثلاث عشرة سنة، وزاد ملكه على ملك أبيه وجده، فإنه ملك مثل حران والرها والرقة ورأس عين، وما مع ذلك من البلاد، وملك حمص، ثم ملك دمشق وبعلبك والأغوار والسواحل إلى غزة، وعظم شأنه، وكسر عساكر مصر، وخطب له بمصر وبقلعة الجبل، على الوجه الذي تقدم ذكره، وكان قد غلب على الديار المصرية لو لا هزيمته، وقتل مدبر دولته شمس الدين لؤلؤ الأرمني، ومخامرة مماليك أبيه العزيزية، وكان يذبح في مطبخه كل يوم أربعمائة رأس غنم، وكانت سماطاته وتجمله في الغاية القصوى، وكان حليماً وتجاوز به الحلم إلى حد أضر بالمملكة، فإنه لما أمنت قطاع الطريق في أيام مملكته من القتل والقطع، تجاوزوا الحد في الفساد بالمملكة، وانقطعت الطرق في أيامه، وبقي لا يقدر المسافر على السفر من دمشق إلى حماة وغيرها، الا برفقة من العسكر وكثر طمع العرب والتركمان في أيامه، وكثرت الحرامية، وكانوا يكبسون الدور، ومع ذلك إذا أحضر القاتل إلى بين يدي الملك الناصر المذكور يقول: الحي خير من الميت، ويطلقه، فأدى ذلك إلى انقطاع الطرقات وانتشار الحرامية والمفسدين، وكان على ذهن الناصر المذكور شيء كثير من الأدب والشعر، ويروى له أشعار كثيرة منها:
فوالله لو قطعت قلبي تأسفاً ** وجرعتني كاسات دمعي دماً صرفا

لما زادني إلا هوى ومحبة ** ولا اتخذت روحي سواك لها إلفا

وبنى بدمشق مدرسة قريب الجامع تعرف بالناصرية، ووقف عليها وقفاً جليلاً وبني بالصالحية تربة غرم عليها جملاً مستكثرة، فدفن فيها كرمون، وهو بعض أمراء التتر، وكانت منية الملك الناصر ببلاد العجم، وكان مولد الناصر المذكور في سنة سبع وعشرين وستمائة، فيكون عمره اثنتين وثلاثين سنة تقريباً.
ذكر مبايعة شخص بالخلافة وإثبات نسبه:
وفي هذه السنة في رجب، قدم إلى مصر جماعة من العرب، ومعهم شخص أسود اللون، اسمه أحمد، زعموا أنه ابن الإمام الظاهر بالله، محمد ابن الإمام الناصر، وأنه خرج من دار الخلافة ببغداد لما ملكها التتر، فعقد الملك الظاهر بيبرس مجلساً حضر فيه جماعة من الأكابر، منهم الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، والقاضي تاج الدين عبد الوهاب بن خلف، المعروف بابن بنت الأعز، فشهد أولئك العرب أن هذا الشخص المذكور هو ابن الظاهر محمد ابن الإمام الناصر، فيكون عم المستعصم، وأقام القاضي جماعة من الشهود، اجتمعوا بأولئك العرب، وسمعوا شهاداتهم، ثم شهدوا بالنسب بحكم الاستفاضة، فأثبت القاضي تاج الدين نسب أحمد المذكور، ولقب المستنصر بالله، أبا القاسم أحمد ابن الظاهر بالله محمد، وبايعه الملك الظاهر والناس بالخلافة، واهتم الملك الظاهر بأمره وعمل له الدهاليز والجمدارية وآلات الخلافة، واستخدم له عسكراً، وغرم على تجهيزه جملاً طائلة. قيل إن قدر ما غرمه عليه ألف ألف دينار، وكانت العامة تلقب الخليفة المذكور بالزرابيني، وبرز الملك الظاهر والخليفة الأسود المذكور في رمضان من هذه السنة، وتوجها إلى دمشق، وكان في كل منزلة يمضي الملك الظاهر الى دهليزه الخاص به، ولما وصلا إلى دمشق، نزل الملك الظاهر بالقلعة، ونزل الخليفة في جبل الصالحية، ونزل حول الخليفة أمراؤه وأجناده.
ثم جهز الخليفة عسكره إلى جهة بغداد، طمعاً في أنه يستولي على بغداد، ويجتمع عليه الناس، فسار الخليفة الأسود بعسكره من دمشق، وركب الملك الظاهر وودعه ووصاه بالتأني في الأمور، ثم عاد الملك الظاهر إلى دمشق من توديع الخليفة، ثم سار إلى الديار المصرية ودخلها في سابع عشر ذي الحجة من هذه السنة، ووصلت إليه كتب الخليفة بالديار المصرية، أنه قد استولى على عانة والحديثة، وولى عليهما، وأن كتب أهل العراق وصلت إليه يستحثونه على الوصول إليهم، ثم قبل، أن يصل إلى بغداد، وصلت إليه التتر وقتلوا الخليفة المذكور، وقتلوا غالب أصحابه، ونهبوا ما كان معه وجاءت الأخبار بذلك.
ذكر غير ذلك من الحوادث:
في هذه السنة، لما سار الملك الظاهر إلى الشام، أمر القاضي شمس الدين ابن خلكان فسافر في صحبته من مصر إلى الشام، فعزل عن قضاء دمشق نجم الدين ابن صدر الدين بن سنا الدولة، وكان قطز قد عزل المحي ابن الزكي الذي ولاه هولاكو القضاء، وولى ابن سنا الدولة، فعزله الملك الظاهر في هذه السنة وولى القضاء شمس الدين بن خلكان.
وفيها قدم أولاد صاحب الموصل، وهم الملك الصالح إسماعيل، ثم أخوه الملك المجاهد إسحاق صاحب جزيرة ابن عمر، ثم أخوهما الملك المظفر علي صاحب سنجار، أولاد لؤلؤ، فأحسن الملك الظاهر إليهم، وأعطاهم الإقطاعات الجليلة بالديار المصرية، واستمروا في أرغد عيش في طول مدة الملك الظاهر.
وفيها في ربيع الآخر وردت الأخبار من ناحية عكا، أن سبع جزائر في البحر خسف بها وبأهلها، وبقي أهل عكا لابسين السواد وهم يبكون ويستغفرون من الذنوب بزعمهم.
وفيها جهز الملك الظاهر بيبرس بدر الدين الأيدمري، فتسلم الشوبك في سلخ ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة تسع وخمسين وستمائة، وأخذها من الملك المغيث صاحب الكرك.

.ما وقع من أحداث سنة ستين وستمائة:

ثم دخلت سنة ستين وستمائة:
في هذه السنة في نصف رجب، وردت جماعة من مماليك الخليفة المستعصم البغاددة، وكانوا قد تأخروا في العراق بعد استيلاء التتر على بغداد، وقتل الخليفة، وكان مقدمهم يقال له شمس الدين سلار، فأحسن الملك الظاهر بيبرس ملتقاهم، وعين لهم الإقطاعات بالديار المصرية.
وفيها في رجب أيضاً، وصل إلى خدمة الملك الظاهر بيبرس بالديار المصرية، عماد الدين بن مظفر الدين، صاحب صهيون، رسولاً من أخيه سيف الدين صاحب صهيون، وصحبته هدية جليلة، فقبلها الملك الظاهر وأحسن إليه.
وفيها جهز الملك الظاهر عسكراً إلى حلب، وكان مقدمهم شمس الدين سنقر الرومي، فأمنت بلاد حلب وعادت إلى الصلاح، ثم تقدم الملك الظاهر بيبرس إلى سنقر الرومي إلى صاحب حماة الملك المنصور، وإلى صاحب حمص الملك الأشرف موسى أن يسيروا إلى أنطاكية وبلادها، للإغارة عليها، فساروا إليها ونهبوا بلادها وضايقوها، ثم عادوا، فتوجهت العساكر المصرية صحبة سنقر الرومي إلى مصر، ووصلوا إليها في تاسع عشرين رمضان من هذه السنة، ومعهم ما ينوف عن ثلاثمائة أسير، فقابلهم الملك الظاهر بالأحسان والإنعام.
وفيها لما ضاقت على أقوش البرلي البلاد، وأخذت منه حلب، ولم يبق بيده غير البيرة، دخل في طاعه الملك الظاهر وسار إليه، فكتب الملك الظاهر إلى النواب بالإحسان إليه وترتيب الإقامات له في الطرقات، حتى وصل إلى الديار المصرية، في ثاني ذي الحجة من هذه السنة، أعنب سنة ستين، فتلقاه الملك الظاهر وبالغ في الإحسان إليه، وأكثر له العطاء، فسأله أقوش البرلي من الملك الظاهر أن يقبل منه البيرة، فلم يفعل، وما زال يعاوده حتى قبلها، وبقي أقوش البرلي العزيز المذكور مع الملك المظاهر إلى أن تغير عليه، وقبضه في رجب سنة إحدى وستين وستمائة، فكان آخر العهد به.
وفيها في ذي القعدة، قبض الملك الظاهر على نائبه بدمشق، وهو علاء الدين طيبرس الوزيري، وكان قد تولى دمشق، بعد مسير علاء الدين أيدكين البندقدار عنها، وسبب القبض عليه، أنه بلغ الملك الظاهر عنه أمور كرهها، فأرسل إليه عسكراً مع عز الدين الدمياطي وغيره من الأمراء، لما وصلوا إلى دمشق، خرج طيبرس لتلقيهم، فقبضوا عليه وقيدوه وأرسلوه إلى مصر، فحبسه الملك الظاهر، واستمر الحاج طيبرس في الحبس سنة وشهراً، وكانت مدة ولايته بدمشق سنة وشهراً أيضاً، وكان طيبرس المذكور رديء السيرة في أهل دمشق، حتى نزح عنها جماعة كثيرة من ظلمه، وحكم في دمشق بعد قبض طيبرس المذكور، علاء الدين أيدغدي الحاج الركني، ثم استناب الملك الظاهر على دمشق الأمير جمال الدين أقوش النجيبي الصالحي.
وفيها في يوم الخميس في أواخر ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة ستين وستمائة، جلس الملك الظاهر مجلساً عاماً، وأحضر شخصاً كان مد قدم إلى الديار المصرية في سنة تسع وخمسين وستمائة، من نسل بني العباس، يسمى أحمد، بعد أن أثبت نسبه، وبايعه بالخلافة، ولقب أحمد المذكور الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، وقد اختلف في نسبه، فالذي هو مشهور بمصر عند نسابة مصر، أنه أحمد بن حسن بن أبي بكر ابن الأمير أبي علي القبى ابن الأمير حسن ابن الراشد ابن المسترشد ابن المستظهر، وقد مر نسب المستظهر مع جملة خلفاء بني العباس، وأما عند الشرفاء العباسيين السلمانيين في درج نسبهم الثابت فقالوا: هو أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر أحمد ابن الإمام المسترشد الفضل ابن المستظهر. ولما أثبت الملك الظاهر نسب المذكور، نزله في برج محترزاً عليه، وأشرك له الدعاء في الخطبة لا غير ذلك.
وفيها جهز الملك المنصور صاحب حماة، شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري رسولاً إلى الملك الظاهر، ووصل شيخ الشيوخ المذكور، فوجد الملك الظاهر عاتباً على صاحب حماة، لاشتغاله عن مصالح المسلمين باللهو، وأنكر الملك الظاهر على الشيخ شرف الدين ذلك، ثم انصلح خاطره، وحمله ما طيب به قلب صاحبه الملك المنصور، ثم عاد إلى حماة.
وفيها توفي الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي الإمام في مذهب الشافعي، وله مصنفات جليلة في المذهب، وكانت وفاته بمصر رحمه الله تعالى.
وفيها في ذي الحجة، توفي الصاحب كمال الدين عمر بن عبد العزيز المعروف بابن العديم، انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة، وكان فاضلاً كبير القدر، ألف تاريخ حلب، وغيره من المصنفات، وكان قد قدم إلى مصر لما جفل الناس من التتر، ثم عاد بعد خراب حلب إليها، فلما نظر ما فعله التتر من خراب حلب، وقتل أهلها بعد تلك العمارة، قال في ذلك قصيدة طويلة منها:
هو الدهر ما تبنيه كفاك يهدم ** وإن رمت إنصافاً لديه فتظلم

أباد ملوك الفرس جمعاً وقيصراً ** وأصمت لدى فرسانها منه أسهم

وأفنى بني أيوب مع كثر جمعهم ** وما منهم إلا مليك معظم

وملك بني العباس زال ولم يدع ** لهم أثراً من بعدهم وهم هم

وأعتابهم أضحت تداس وعهدها ** تباس بأفواه الملوك وتلثم

وعن حلب ما شئت قل من عجائب ** أحل بها يا صاح إن كنت تعلم

ومنها:
فيا لك من يوم شديد لغامه ** قد أصبحت فيه المساجد تهدم

وقد درست تلك المدارس وارتمت ** مصاحفها فوق الثرى وهي ضخم

وهي طويلة وآخرها:
ولكنما لله في ذا مشيئة ** فيفعل فينا ما يشاء ويحكم